Liverpool

ربما تحب نادي ليفربول أو منتخب البرازيل..لكن كيف أصبحت ليفربول مدينة عالمية بهذا الثراء؟..ولماذا عندما تشاهد منتخب السامبا تجد لاعبين بيضًا وآخرين من ذوي البشرة السوداء؟..بريطانيا هي العامل المشترك.

لكن قبل بريطانيا كانت هولندا التي ابتدعت أحط تجارة عرفتها الإنسانية..اكتشف كولومبوس العالم الجديد، وسحق الأوروبي الأبيض السكان الأصليين، وكان لا بد من توفير عمالة رخيصة..من أين؟ بالطبع إفريقيا..ظهرت شركة الهند الغربية الهولندية وأبحرت بأول شحنة من الرقيق الإفريقي صوت مدينة تُدعي سانت دومينجو في أوائل القرن السادس عشر، لكن بريطانيا ستدخل علي خط المنافسة عام لتنتزع الحق الحصري لتوريد العبيد للمستعمرات الإسبانية عام 1600 وبعد أربعين عام سيذهب حق التوريد للفرنسيين، ثم يعود للإنجليز بموجب معاهدة أوتريخت لقاء 200 ألف $ لملك إسبانيا.

تلك التجارة عُرفت بإسم التجارة الثلاثية Traingular Trade..تبحر السفن من الموانئ الأوروبية صوب خليج غينيا في إفريقيا، وبالسلب والإغارة وشراء الذمم، تستولي علي ألوف الأفارقة وتشحنهم في رحلة مهلكة عبر المحيط الأطلسي صوب مستعمرات العالم الجديد..وما علاقة مدينة ليفربول؟ كانت حتي قبل ظهور تجارة العبيد مدينة ساحلية فقيرة، إلي أن تفطّن ملاكب السفن لمسألة العبيد، فبدأ التراكم المالي الهائل الذي ساعد في تطوير المدينة، بل وتأسسّت نقابة للعبيد في ليفربول، لتنظيم شئون تلك التجارة الهائلة.

كانت أرباح تلك التجارة من الضخامة بما كان للحد الذي دفع العائلة المالكة البريطانية للدخول فيها بصفة شخصية للملكة..يحكي والتر رودني ص: 106 من كتابه ‘‘أوروبا والتخلف في إفريقيا‘‘ أن السيد جون هوكنز قام بثلاث رحلات إلي غرب إفريقيا في ستينات القرن ال 16..سرق بعض الأفارقة وونقلهم إلي أميركا الوسطي وعاد إلي بريطانيا..سال لعاب الملكة إليزابيث الأولي من فرط مكاسب تاجر الرقيق، لدرجة أنها طلبت منه الإشتراك في مغامرته الثانية..حيث قدّمت له سفينة تحمل اسم ‘‘يسوع‘‘ لسرقة المزيد من الأفارقة، ولما عاد لإنجلترا بإيرادات ضخمة، كافأته الملكة بلقب ‘‘فارس‘‘ واختار هوكنز أن يكون شعار النبالة الخاص به علي شكل إفريقي مُقيد بالسلاسل.

ولا شيء أنسب من قصة السفينة ‘‘ زونج‘‘ لتوصيح الرعب الذي عايشه الأفارقة أثناء عمليات النقل..لقبطان كولينجوود أبحر تجاه غانا..الهدف شحنة من العبيد الأفارقة..تحديدًا الكورومانتيين نسبة إلي مدينة كورمانتسي الغانية والتي تضم أفراد قبيلة الآكان..كان مشهودًا لهم بقوة البنيان، التي سوف تساعدهم علي تحمل الأعباء القاسية لزراعة التبغ وقصب السكر..الجشع دفع القبطان لتحميل السفينة بأضعاف حمولتها البشرية، لكن الأمور سارت بشكل سيء.

القبطان أخطأ المسير تجاه جامايكا حيث سيقوم ببيع شحنة العبيد..وأمضت السفينة 3 أسابيع إضافية في البحر..الشقوق تدق بدنها والمياه ستبدأ حتمًا بالتدفق..فما كان من القبطان وبحارته إلا أن قيدوا 133 من الحمولة البشرية الإفريقية، ثم ألقوها تباعًا في المحيط..الوقاحة ستدفع القبطان عندما يحط الرحال في جامايكا لأن يُطالب بتعويض عن قتله للأفارقة، حيث كان التأمين يُغطي كل رأس بثلاثين جنيهًا..تلك الحادثة رغم بشاعتها لا تُقارن بما جري علي متن السفينة ‘‘ليوسدن‘‘ التي فاجأتها ريح عاصف وكان غرقها أمرًا مؤكدّا..حمولتها من العبيد قاربت 664..خشي القبطان أن يقاسموهم في قوارب النجاة المحدودة، فأنزلهم لقاع السفينة وأغلق عليهم الأبواب..فرّ وطاقمه بينما قُتل العبيد السبعمائة غرقًا.

وما الذي يحدث للأفارقة بعد الوصول؟.سدريك جي روبنسون في ص:ص 335-338، من الفصل السادس ‘‘الأركيولوجيا التاريخية للتراث الثوري الأسود‘‘، من مؤلفه ‘‘الماركسية السوداء: تكوين حراك ثوري للشعوب السوداء‘‘ والصادر بصفحاته الألف عن المركز القومي للترجمة..يسرد بعضًا من ملامح الجحيم في إحدي أسوأ المستعمرات التي أنشأها الهولنديون علي وجه الأرض..سورينام..إذا هرب العبد إلي الغابة للراحة لأسابيع قليلة، فعند أسره من جديد، يُقطع من ساقيه وتر العرقوب لشل حركة ساقيه عقابًا علي الجريمة الأولي، أما إذا تكرّرت جريمة الهرب، فإن رجله اليُمني تُبتر..كان آخرون يُجلدون حتي الموت بما كان يُعرف بالسوط الإسباني، يُصلبون ويُحرقون أحياء، أو تُقطع رؤوسهم، أو يُعلقون بخطاف اللحوم، أو تُكسر عظامهم علي سقالات.

كم عدد الأفارقة الذين نُقلوا خلال عقدين من الزمن..من 15- 35 مليون إفريقي، قُتل منهم مليونان وألقيت جثثهم في المحيط الأطلنطي، بحسب الدكتور حمدي عبد الرحمن حسن في كتابه ‘‘ النظم السياسية الإفريقية‘‘..ومن هؤلاء كان نصيب البرازيل وحدها خمسة ملايين عبد إفريقي عملوا في صناعة قصب السكر..تجارة سحقت الأفارقة وبُني علي أكتافها مجد دول ومدن مثل بريطانيا وليفربول وبريستول، وتحولت من أماكن مهمشة لمدن ساحلية عملاقة، حتي أن الكنيسة الإنجليزية نفسها شاركت في تجارة العبيد وأستثمرت لمدة مائة عام في شركة مسئولة عن توريد العبيد، وتطور الصندوق، الذي كان يرتبط في القرن الثامن عشر باسم الأميرة آن، الآن إلى هيئة استثمارية بقيمة 10.1 مليار جنيه إسترليني..وبالطبع اعتذرت الكنيسة عن تلك العمليات الشائنة عام 2020..وما الذي جناه الأفارقة من تلك الميارات؟ يكفي الإعتذار بالطبع.

لا داعى لظلم بريطانيا..يكفي أنها أدركت خطأها وبعد قرنين من نقل العبيد أصدرت تشريعاتها لمنع تلك التجارة عام 1807..صحيح..لكن د.عايدة العزب موسي تُقدّم تفسيرًا وازنًا لذلك في كتابها الماتع ‘‘تجارة العبيد في إفريقيا‘‘ وتحديدًا ص.194 من الفصل الخامس‘‘ إلغاء الرقّ وآثاره‘‘..ببساطة لأن الرأسمالية الإنجليزية تحولت من رأسمالية تجارية إلي رأسمالية صناعية وصارت لا تعتمد علي التجارة بقدر ما تعتمد علي الصناعة وما يلزمها من قوة عاملة، وتحولت إلي النظام الإمبريالي الذي يهدف إلي احتلال البلاد الإفريقية وحكمها واستخراج ثرواتها لصالحه، وكل هذا يحتاج إلي الأيدي العاملة داخل إفريقيا. فعملت بريطانيا علي الإحتفاظ بثروات إفريقيا داخلها والأيدي العاملة لشعبها ليعمل في المزارع والمناجم الإفريقية التي تديرها الإمبريالية..بريطانيا كانت تريد فقط عبيدًا داخل القارة وليس خارجها.

هل تتذكّر دولة هايتي؟ تلك التي صعد اسمها للأخبار في يوليو 2021 بعد مقتل رئيسها جوفينيل مويس في عملية غامضة؟..هايتي إحدي أفقر دول الأرض وربما هي المثال الأكثر فداحة لوقاحة المستعمر الأوروبي..عام 1791 أطلق العبدان الإفريقيان توسان لوفرتور وجان جاك ديسالين ثورة ضد إذلال المستعمرين البيض الفرنسيين، وبعد 13 سنة نجحوا في الحصول علي الاستقلال، بعد أن كبّد العبيد الجيش الفرنسي -حتي وهو تحت قيادة شارل لوكلير زوج شقيقة نابليون بونابارت- زهاء 50 ألف قتيل..كانت تلك أول مرة ينتصر فيها العبيد..وعلي إمبراطورية عملاقة آنذاك كفرنسا..هل يمر الأمر؟ لأ..أجبرت فرنسا هايتي المستقلة علي دفع تعويضات بلغت حتي العام 1947 ما قيمته 21 مليار $..في عام 2010 ضرب هايتي زلزال قتل 230 ألف إنسان، وأطلق عدد من كبار الفنانين والنشطاء حول العالم نداءً لفرنسا لتتحمّل مسئوليتها في الإاثة وهي التي نهبت من ذلك البلد عشرات مليارات الدولارات عقابًا لثورة عبيده..فرنسا استجابت..تبرعت بمليوني $..نعم مليونين.

لا جريمة في التاريخ أكبر من تلك التجارة الجهنمية..التجارة الثلاثية للعبيد..والتي تتذكّرها الأمم المتحدة في يوم رسمي في الثالث والعشرين من أغسطس من كل عام..عشرات ملايين الأفارقة سيقوا كعبيد، قارة بالكامل فُرغت من قوتها البشرية، مئات المليارات من الدولارات بمقاييس اليوم راكمها الأوروبي الأبيض علي جثثهم ثم من خيرات أرضهم..ثم في النهاية..لا ضير من متحف في ليفربول لتخليد مآسي العبودية..كل ما جناه الأفارقة..‘‘ معلش‘‘..ثم يأتي أحدهم ليتنطّع ويخبرك بأنه كان ماضي ومرّ بأساه..يستعبدك ويأسرك ويسرق أرضك ويقتل منك ملايين ثم يكتفي بأسف عابر ويعود ليكما سرقاته..ويطالبك عبيده المتطوعين حديثًا عبر فيسبوك بالنسيان..أبدًا لن يكون

Leave a comment

Design a site like this with WordPress.com
Get started